أعزائي الباحثين،
نشكر الله من أجل محبته وإهتمامه في تعليم المؤمنين الحقائق الروحية الثمينة التي تبنيهم في الحق وتثبتهم في الإيمان وتحفظهم من العثرات وتمنحهم سلام القلب والضمير "كي لا نكون فيما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بحيلة الناس بمكر الى مكيدة الضلال" (رسالة أفسس ٤: ١٤). من المُسَلَم به أن إبليس عدو النفوس يعمل بكل خبث على هدم الحقائق الإلهية بكل وسيلة ممكنة وبطرق مختلفة لأنهُ عدو الحق كما قال عنه ربنا يسوع المسيح "...ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب" (يوحنا ٨: ٤٤). وقد أثبت التاريخ والتجارب أن أقصر الطرق وأنجح الوسائل التي يستخدمها الشيطان لهدم الحق هي في محاولة جعل المؤمنين الحقيقيين يشككون في مسألة خلاص نفوسهم، وفي صدق كلمة الله بالنسبة لهذا الأمر. وهذا دأب الشيطان منذ بدء وجود الإنسان على الأرض. إذ أن أول كلمة نطق بها الشيطان وسجلها الوحي المقدس هي عبارة تشكيك بصدق الله قالها لحواء في الجنة "أحقاً قال الله" (تكوين ٣: ١). والعبارة الثانية هي قوله لحواء "لن تموتا" (تكوين ٣: ٤)، مكذباً الله له المجد الذي حذّر آدم من الموت إن هو عصى أمره وأكل من ثمر الشجرة التي في وسط الجنة. هناك سؤال يَطرح دائماً، كان ولا يزال موضع جدل وهو "هل يمكن أن يخسر المؤمن الحقيقي خلاصه ويهلك مجدداً في جهنم النار؟" هذا السؤال يعني تماماً "هل يذبح الله أولاده الأحباء؟" للأسف، أكثر الناس يظنون هذا. وهم بذلك، ودون أن يدروا، ينقضون كل أساسات المسيحية وأركانها وقواعدها، وينزلون بها إلى مستوى ديانات العالم الباطلة، غير مدركين أن هذا التعليم يعني إلغاء كل الحقائق الروحية المسيحية بالكامل، من ناحية الفداء والكفارة والخلاص والنعمة والصليب وموت المسيح وقيامته وفاعلية دمه الكريم وإسمه المبارك، ومجد الله ومحبته وكلمته وأمانته وصدقه ومشيئته ومشورته ومواعيده وقدرته وكرامته وسكن روحه القدوس في المؤمنين وختمهم به إلى يوم فداء الأجساد بالقيامة. كما أن هذا التعليم يلغي مفاهيم ومفاعيل الإيمان والحياة الأبدية والتبرير والتقديس والتطهير والغفران والبنوية لله والعضوية في جسد المسيح والكنيسة، كما ينفي إمكانية تمتع المؤمن بالسلام والفرح والرجاء واليقين والراحة، كما يلغي معنى شفاعة المسيح والتأديب والتدريب اللازم للمؤمن لتعليمه في البرية. ويعني بالمقابل أن الإنسان هو نفسه أساس خلاص نفسه وحفظها وإستحقاقها لكل البركات الروحية الإلهية من خلال أعماله. فيا لشر هذه الفكرة الشيطانية الرهيبة.
ولكن في الحقيقة، كيفما قلبنا صفحات الكتاب المقدس نرى ثبات خلاص المؤمن الحقيقي بفضل نعمة الله ساطعاً كالشمس في وضح النهار. ولكن أصحاب البصيرة الروحية الضعيفة لا يدركون هذا الحق، لأنهم لا ينظرون إلى الله المخلص وضامن هذا الخلاص، بل ينظرون فقط إلى إمكانيات المؤمن وقدرته على حفظ نفسه في دائرة الخلاص، حيث لا إمكانيات ولا قدرة.
إن فكرة إمكان هلاك المؤمن الحقيقي الباطلة، تفتح الباب واسعاً أمام الشيطان كي ينفث سموم التشكيك في ضمير الإنسان، قائلاً له "إذا كان خلاصك غير مضمون، وكذلك حياتك الأبدية، فلماذا تخسر العالم أيضاً؟ فإنك جئت إلى هذا العالم لمرة واحدة فقط. فإذا كان العذاب في جهنم النار هو نصيبك في النهاية، لأنه لا يوجد ما أو من يضمن لك الخلاص والحياة الأبدية، فلماذا لا تُمتع نفسك على الأقل في هذه الحياة بالملذات و..و..أليس من الغباء أن تخسر حياتك في العالم والأبدية معاً؟" وهكذا، يصبح غير المؤمن متردداً في قبول الإيمان والخلاص، والمؤمن الضعيف مزعزعاً ومشوشاً لناحية تأكيد حصوله بالإيمان على الخلاص والحياة الأبدية.
إن تعليم إمكانية هلاك المؤمن الحقيقي يجعل المؤمن يعيش في خوف وشك مستمرين، وهذا نقيض المسيحية على خط مستقيم. كما أن هذا التعليم يبطل مفعول البشارة. فكيف يكون خبراً ساراً أبشر به الناس إذا كان خلاصهم من الهلاك والدينونة أمراً غير ثابت ويمكن خسارته ولا يمكن ضمانه؟ وهل يا ترى يستحق، أو من المنطق أن نسميه "بشارة"؟ فالمسيحية هي ديانة الرجاء الحقيقي واليقين الثابت لأنها مبنية على أقوال الله الصادقة والأمينة، وليس على إحساسات المؤمن ومشاعره وظنونه وإمكانياته أو أي أساس آخر.
مولود أو غير مولود
قبل الدخول في عرض الأدلة التي تؤكد ثبات مركز المؤمن الحقيقي وعدم إمكانية هلاكه، من المهم أن نعرف أن غير المؤمن، أي الذي لم يولد من الله ولادة روحية جديدة، هو إنسان هالك بالتأكيد، مهما كانت درجة تدينه أوعظمة أعماله الصالحة أو رفعة أخلاقه الحسنة. وعلى العكس تماماً، فإن كل مؤمن حقيقي مولود من الله، لا تستطيع أية قوة في الكون أن تنزع منه خلاصه الموهوب له من الله بالنعمة والإيمان. إن الإيمان الحقيقي هو الذي يهب المؤمن حياة جديدة هي حياة المسيح فيه، وهو الذي يلده بروح الله القدوس، والذين هم خارج دائرة الإيمان الحقيقي ليس لهم نصيب في الخلاص. فليس كل من قال أنه مؤمن هو كذلك. بل المولود حقاً من الله وروح الله يسكن فيه. والمُدعون يمكنهم خداعنا بإيمانهم ولكنهم بالحقيقة لا يخدعون سوى نفوسهم. وهم لا يستطيعون أن يخدعوا الله له المجد لأنه عارف القلوب والأفكار. وهذا النوع من الناس مصيرهم الهلاك. وعندما يظهر زيفهم وادعاؤهم من خلال "إرتدادهم عن الإيمان"، فهم لن يخسروا خلاصهم لأنهم غير مخلصين أصلاً، وفاقد الشيء لا يعطيه ولا يخسره لأنه لا يملكه أساساً. فما هو مفهوم الإرتداد الذي يستند إليه عدد كبير من الناس لإثبات فكرة إمكانية هلاك المؤمن الحقيقي؟
الإرتداد
لا يعني الإرتداد في المسيحية أن يكون الشخص مؤمناً حقيقياً ثم ينكر إيمانه فيخسر خلاصه. بل أن مفهوم الإرتداد في الكتاب المقدس هو عدم قبول الحق أو الإلتزام به على رغم معرفته والتأثر به والإقتناع بصحته أحياناً كثيرة. وقد أوضح ربنا يسوع المسيح مسألة الإرتداد في شرح مثل الزارع الذي تحدث فيه عن أربع عينات من الذين يكرز لهم بكلمة الله، حيث نفهم أن العينات الثلاث الأولى هم أشخاص يبقون خارج دائرة الإيمان الحقيقي الذي يمنح الخلاص الأبدي. وسنتناول هنا العينة الثانية من الناس الذين وصفهم الرب بالمرتدين إذ قال "والذين على الصخر هم الذين متى سمعوا يقبلون الكلمة بفرح. وهؤلاء ليس لهم أصل. فيؤمنون إلى حين، وفي وقت التجربة يرتدون" (لوقا ٨: ١٣). فالمرتدون هنا بحسب تعريف الرب هم أشخاص يبدون بحسب الظاهر أنهم قبلوا كلمة الله وهم فرحون بها. إلا أن فرح هؤلاء وقتي ومرتبط بتأثير نفسي ليس إلا. وإيمانهم هو الإيمان النظري الذي لا يخضع القلب لسلطان كلمة الله كي تجري التغيير المطلوب في الحياة، أو أن تعمل عملها بالروح القدس لتطهير النفس من الخطية وتحقيق الولادة الجديدة وأعداد القلب ليكون مسكناً لروح الله. فكلمة الله لم تنغرس في قلوبهم الصخرية، لذلك هم "ليس لهم أصل". وعندما تأتي التجربة لإمتحان نوعية هذا الإيمان، سرعان ما يظهر الزيف والباطل. فالمرتدون إذا هم أشخاص عرفوا الحق وربما أعجبوا به ولكنهم لم يقبلوه في القلب، وبالتالي لم يخلصوا لكي يخسروا هذا الخلاص فيما بعد لسبب أو لآخر. وقد كان سيمون الساحر واحداً من أمثال هؤلاء، إذ يقول الكتاب عنه بعد تأثره بمشاهدة الآيات العظيمة التي كان يجريها الروح القدس على يدي فيلبس المبشر في السامرة "وسيمون أيضاً نفسه آمن. ولما أعتمد كان يلازم فيلبس. وإذ رأى آيات وقوات عظيمة تجرى إندهش" (أعمال الرسل ٨: ١٣). ولكن سرعان ما ظهر زيف إيمان سيمون الساحر إذ حاول رشوة الرسولين بطرس ويوحنا بالمال لكي يمنحاه سلطان إعطاء الروح القدس عن طريق وضع الأيدي كما كانا يفعلان، ربما لإستخدام هذه الموهبة في أعمال السحر التي كان يقوم بها. فتصدى له الرسول بطرس بالقول "...لتكن فضتك معك للهلاك لأنك ظننت أن تقتني موهبة الله بدراهم. ليس لك نصيب ولا قرعة في هذا الأمر. لأن قلبك ليس مستقيماً أمام الله. فتب من شرك هذا واطلب إلى الله عسى أن يغفر لك فكر قلبك. لأني أراك في مرارة المر ورباط الظلم. فأجاب سيمون وقال أطلبا أنتما إلى الرب من أجلي لكي لا يأتي علي شيء مما ذكرتما" (أعمال الرسل ٨: ٢٠-٢٤). فقد إنخدع كثيرون ربما بإيمان سيمون الساحر. لكن الحقيقة هي أن قلبه لم يتغير أبداً ولا أفكاره الشريرة التي بدا جلياً أنه لا يزال مربوطاً بها. أضف إلى ذلك أنه رفض التوبة أو طلب المغفرة من الرب بحسب نصيحة الرسول بطرس له، وطلب من الرسولين أن يفعلا ذلك من أجله، وهو الأمر الذي لا يؤدي إلى أي نتيجة لصالح خلاص الإنسان الخاطىء. ولا نعلم ما إذا عاد سيمون الساحر وتاب عن شره فنال الخلاص. لكن من المؤكد أنه إذا لم يكن قد فعل ذلك فهو هلك بالتأكيد، ليس لأنه خسر خلاصه، بل لأنه في الأساس لم يكن حاصلاً على الخلاص لكي يخسره ويهلك من جديد. وقد تم فيه قول الكتاب "لأن إرتداد الحمقى يقتلهم وراحة الجهال تبيدهم " (سفر الأمثال١: ٣٢).
وقد وردت في الكتاب آيات عديدة عن الإرتداد، جميعها تشمل غير المؤمنين بالحق على رغم معرفتهم به، كما قال الرسول بطرس عن الأنبياء والمعلمين الكذبة الذين يدسون بدع هلاك "لأنه كان خيراً لهم لو لم يعرفوا طريق البر، من أنهم بعدما عرفوا يرتدون عن الوصية المقدسة المسلمة لهم" (رسالة بطرس الثانية ٢: ٢١). عن أمثال هؤلاء يقول الرسول بولس "ولكن الروح يقول صريحاً أنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان تابعين أرواحاً مضلة وتعاليم شياطين، في رياء أقوال كاذبة موسومة ضمائرهم" (رسالة تيموثاوس الأولى ٤: ١و٢). فهؤلاء كمرتدين لم يكونوا في يوم من الأيام من أبناء الحياة ثم أنكروا إيمانهم فخسروا خلاصهم، بل كانوا ولا يزالون من أبناء الظلمة والهلاك. فإرتداد أمثال هؤلاء هو دليل على عدم وجود الإيمان الحقيقي في قلوبهم الشريرة من البداية إلى النهاية، على رغم وجودهم بين المؤمنين الحقيقيين، كقول الرسول بولس "أنظروا أيها الإخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الإرتداد عن الله الحي" (الرسالة إلى العبرانيين ٣: ١٢). فهؤلاء بلغة الوحي "…أناس مرتدين عن الحق... يعترفون بأنهم يعرفون الله ولكنهم بالأعمال ينكرونه، إذ هم رجسون غير طائعين ومن جهة كل عمل صالح مرفوضون" (تيطس١: ١٤و١٦).
العبرانيون والإرتداد
من أشهر الآيات التي يستخدمها من يعتقدون بإمكانية هلاك المؤمن الحقيقي ما كتبه الرسول بولس إلى العبرانيين "أما البار فبالإيمان يحيا. وإن إرتد لا تسر به نفسي" (الرسالة إلى العبرانيين ١٠: ٣٨). فالمرتد هنا ليس كما يبدو أنه البار الذي سبق الحديث عنه، بدليل ما قاله الرسول بولس بعد ذلك مباشرة "وأما نحن (كمؤمنين حقيقيين مفديين ومبررين) فلسنا من الإرتداد للهلاك، بل من الإيمان لإقتناء النفس" (الرسالة إلى العبرانيين ١٠: ٣٩). ولكن المرتد هو الذي يريد أن يتبرر بغير الإيمان بالمسيح بعد التعرف إليه. أما لماذا أوحى الروح القدس لبولس لكي يكتب بهذه الطريقة الملتبسة لدى غير المدركين لهذا الحق؟ ذلك لأن بولس كان يكتب إلى العبرانيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أبرارا بحسب مفهوم البر بالناموس والأعمال في الديانة اليهودية. فيشرح لهم في هذه الرسالة الفرق الشاسع بين الديانة اليهودية والإيمان المسيحي، مؤكداً على أن بر الناموس لم يعد مجدياً بعد الصليب، بل أن البر الذي يرضي الله أصبح فقط بر الإيمان بالمسيح الفادي. وهو في هذا الآية كمن يريد أن يقول لهم "إن البار الحقيقي هو الذي يحيا بالإيمان بالمسيح. أما الذي يرتد ولا يقبل المسيح بالإيمان ليتبرر به بعد التعرف على حقيقته فلن يحصل على الرضى الإلهي عنه". وفي نفس الرسالة يؤكد الرسول بولس هذا الحق بقوله "فإنه إن أخطأنا بإختيارنا (بين قبول الإيمان بالمسيح اوالبقاء في الديانة اليهودية) بعدما أخذنا معرفة الحق (وهذا هو دليل الإرتداد) لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا. بل قبول دينونة مخيف وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين" (الرسالة إلى العبرانيين ١٠: ٢٦و٢٧). فهؤلاء سيدانون كمرتدين لا لأنهم تراجعوا عن إيمان حقيقي كان لديهم، بل لأنهم لم يقبلوا من الأصل الإيمان بالمسيح بعدما عرفوا الحقيقة عنه.
لا يموت أيضا ً
هناك حقيقة مهمة تعلمنا إياها كلمة الله هي أن لا سلطة للخطية والشيطان والموت على المؤمن لإهلاكه بعدما صار في المسيح خليقة جديدة كما هو مكتوب "إذاً، إن كان احد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً" (رسالة كورنثوس الثانية ٥: ١٧). فالكتاب يقول عن المسيح "عالمين أن المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضاً. لا يسود عليه الموت بعد. لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة، والحياة التي يحياها فيحياها لله" (رومية ٦: ٩ و١٠). وعليه، فالمؤمن الذي أخذ حياة المسيح لا يهلك أيضاً مرة ثانية، لأنه كان مرة ميتاً في الذنوب والخطايا، إلا أن "الله الذي هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح...وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع" (أفسس ٢: ٤-٦). فكنيسة المسيح التي أخذت حياته جالسة الآن معه وفيه روحياً في السماويات، ولا يستطيع أحد أن يؤثر على مكانة أي عضو في هذه الكنيسة. ألم يقل المسيح مرة عن كنيسته المبنية على صخرة الإعتراف به كإبن الله الحي "...وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى ١٦: ١٨)؟ فكيف يمكن أن يهلك أحد أعضائها إذاً؟ فكل قوى الشر والشيطان والأرواح الشريرة مهما تعاظمت وحاولت إخراج المؤمن الحقيقي من دائرة الخلاص فلن تقوى على ذلك. وهنا لا بد أن نعرف أن قانون الفداء والحياة التي في المسيح يسوع هو الذي يحكم المؤمن، وليس قانون الخطية والموت. ومن يرفض حقيقة ثبات مركز المؤمن في دائرة الخلاص هو كمن يرفض فكرة إمكان تحليق الطائرات في الجو، على إعتبار أن قانون الجاذبية يمنعها من ذلك، إذ أن شيئاً لا يمكنه الثبات في الهواء ولا يسقط بفعل هذا القانون. ولكن على رغم صحة قانون الجاذبية مئة في المئة، إلا أن تحليق الطائرة لا يستند إليه، بل إلى قوانين أخرى تعمل معاً فتبطل عمل قانون الجاذبية دون أن تلغيه. فمع إستخدام قانون الدفع من خلال المحركات وقانون التوازن في الضغط الجوي فوق الطائرة وتحتها من خلال تصميم يأخذ بالإعتبار هذا التوازن، أصبح بالإمكان أن تحلق الطائرة الحديدية الثقيلة جداً في الهواء، وأن تصل إلى المكان المقصود بأمان دون أن تتأثر بقانون الجاذبية. وهكذا الأمر مع المؤمنين الحقيقيين. فمبدأ أن أجرة الخطية هي موت وهلاك في جهنم النار هو مبدأ صحيح مئة في المئة. إلا أن المبدأ الذي أصبح يحكم حياة المؤمن هو قانون الحياة بعدما عالج المسيح بموته وقيامته مسألة الخطية والموت والشيطان وأعتق المؤمن من سلطتهم جميعاً "لأن ناموس (قانون) روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس (قانون) الخطية والموت. لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد، فالله إذ أرسل إبنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد" (رومية ٨: ٢ و٣). فقانون التعامل الإلهي بعد الصليب مع المؤمن أصبح قانون الحياة والرجاء والفداء والغفران والشفاعة والتأديب، الذي أبطل فاعلية قانون الخطية والموت والدينونة والجسد والناموس والأعمال، الذي لا يزال ساري المفعول بالنسبة لغير المؤمنين. وهاك بعض الشواهد على هذه الحقيقة. فمن جهة إبطال مفعول الجسد والخطية بالنسبة لمصير المؤمن يقول الرسول بولس بالوحي المقدس "عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد للخطية، لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية، فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه. عالمين أن المسيح بعدما أُقيم من الأموات لا يموت أيضاً. لا يسود عليه الموت بعد...فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" (رومية ٦: ٦-٩ و١٤). فلكون المؤمن أصبح شخصاً في المسيح كمن مات معه وقام معه بالإيمان، والمسيح لن يموت في ما بعد، فإن المؤمن لن يهلك أيضاً مرة ثانية. وعن إبطال مفعول الخطية يقول الوحي "ولكنه الآن قد أظهر مرة عند إنقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه" (الرسالة إلى العبرانيين ٩: ٢٦) و "أما الآن إذ أعتقتم من الخطية وصرتم عبيداً لله فلكم ثمركم للقداسة والنهاية حياة أبدية" (رومية ٦: ٢٢). فمع إن أجرة الخطية هي موت إلا أن المؤمن الحقيقي قد أعتق وتحرر من الخطية التي أبطل مفعولها المُهلك بصليب المسيح. وعن إبطال مفعول الموت، أي الهلاك، يقول أيضاً "...قوة الله، الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية، وإنما أظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل" (رسالة تيموثاوس الثانية ١: ٩و١٠). فالموت الروحي لم يعد وارداً بالنسبة للمؤمن الذي أحياه المسيح بالإيمان، لا بل أن المسيح أصبح هو حياته ويحيا فيه. وعن إبطال مفعول أحكام الناموس بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين يقول أيضاً "ولكن الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم قبلا بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح، لأنه هو سلامنا...مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض...ويصالح الإثنين في جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلاً العداوة به" (أفسس ٢: ١٣-١٦) وأيضاً "فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها. إذ الناموس لم يكمل شيئا. ولكن يصير إدخال رجاء أفضل به نقترب إلى الله" (الرسالة إلى العبرانيين ٧: ١٨و١٩). فقوانين الناموس لم يعد لها سلطان على المؤمن الذي أصبح يخضع لقانون النعمة. وأما عن الشيطان نفسه فإن ما حدث له بالنسبة لتأثيره على المؤمنين لم يكن إبطالاً فحسب، بل إبادة كاملة في صليب ربنا يسوع المسيح، "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم إشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية" (الرسالة إلى العبرانيين ٢: ١٤و١٥). فهل يوجد بعد هذا أي شك بالنسبة لحقيقة ثبات مركز المؤمن الحقيقي في دائرة الخلاص؟