شعور المرارة وكيفية التخلص منه

 

لم تكن الحلوى متاحة لنا بوفرة في أيام الحرب، لكن كان هناك الكثير من الأعراس في قريتي. الناس يتزوجون، ونحن الصغار نلتصق بالمهنئين لمحاولة الحصول على قطعة حلو (ملبس) واحدة. كلكم تعرفون الملبس على لوز أو اللوز الملبس الذي هو من أكثر أنواع الحلويات المستخدمة في العالم العربي وخاصة في الأفراح. لكن هل صدف مرة أن كان نصيبك حبة اللوز المرّة؟ إن حدث ذلك، أول ما ستفعله هو المسارعة إلى تغير الطعم المر بسرعة وبأية طريقة. قد تأخد سريعا ً شيئا ً حلوا ً أو تبحث عن الماء لتغسل ذلك الطعم. يقول الكتاب "القلب يعرف مرارة نفسه وبفرحه لا يشاركه غريب" (سفر الأمثال  ١٤: ١٠). لا يختار أحد منا مشاعره ولو كان الأمر بمشيئتنا لاخترنا الفرح في كل حين. لكن عندنا القدرة أن نختار كيفية التفكير لأن ذلك رهن إرادتنا. وعليه فكلنا نستطيع التفكير بطريقة صحيحة مما يولِّد بالتالي التصرف الصحيح الذي ينتج فينا مشاعر جديدة وجيدة.

تعريف المرارة

يـعلمنا الكتاب المقدس "ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث" (رسالة أفسس ٤: ٣١). ما هي هذه المرارة التي تحرضنا كلمة الله على التخلي عنها؟

المرارة هي عادة مدمرة في حياتنا تنتج عن إختبارنا لخسارة شيء أو شخص يعنينا أمره. إختبار الخسارة يؤدي إلى شعور عميق بالحزن نحتاج إلى التعامل معه بشكل صحيح وبمعونة الروح القدس. فالشعور بالمرارة ليس مجرد فكرة أو ذكرى مؤلمة، بل هو إحساس بألم حقيقي داخلي يشعر به الإنسان في كيانه. وإن لم نتعامل مع الشعور بالخسارة بطريقة صحيحة يتحوّل هذا الشعور فينا إلى غضب وضغينة، وبدورهما، إذا لم يتم التعامل معهما، يؤديان إلى كراهية دفينة تلوِّث وتسمم النفس. إذا ً المرارة هي روح عدم غفران، وهي رفض التخلي عن جراح السنين الماضية التي أصبحت تتحكم بحياتنا وتسيطر علينا. وهنا سؤال على كل ٍ منا أن يطرحه على نفسه: "هل أنا مستعد أن أضحي بعمري كي أحتفظ بشعور مدمر؟ وما هي الفائدة التي سأجنيها؟" 

المرارة هي أخبث الأمراض الروحية. إذا فكرت بعمق بالمرارة سوف تجد أنها ليست سوى غضب مفرّز غضب مثلج. هل أخدت مرة قطعة لحم مفرّزة من الثلاجة؟ قطعة اللحم المفرّز لا يوجد فيها أية ليونة أو حركة أو أي شي تستطيع ان تتعامل معه ، يجب ان تذيبها كي تستطيع إستخدامها لأي شيء نافع. الشعور بالمرارة هو غضب مفرّز محقون بالضغينة. هذا الغضب المتحجر يستهلك كل طاقتك وحياتك، يسيطر على كل أفكارك ومشاعرك ويسلبك إختبار الفرح الحقيقي الدائم. لا تستطيع أن تخصص للمرارة زاوية واحدة معينة من حياتك. المرارة تتسرب إلى أفكارك وأحاديثك وذكرياتك وتعاملك مع الناس وردات فعلك. ستطغي على كل مشاعرك.

هل جلست مع شخص لا يتذكر إلا الأشياء السلبية عن الناس؟ سوف تجده لا ينسى اي تفاصيل عن الإساءة بل يسجل كل خطأ وكل حركة وكل نَفَس، ودائماً في كل حديثه يذكرك كم الحياة والناس ظلموه. من منا يرغب في إمضاء الوقت مع إنسان لا ينسى الإساءة؟ هل ترغب في مرافقة شخص لا يرى في الناس إلا الأشياء الخطأ؟ هل ترتاح مع إنسان يظن دائما ً أنه معفى من الغفران، يعطي نفسه الحق المطلق في عدم مسامحة الحياة والناس لأنه مجروح؟ كل الناس يتعبون من الأشخاص السلبيين وفي النهاية يبتعدون عنهم.

نحتاج أن نعرف أنفسنا. إن لم نعرف أحاسيسنا لن نعرف أنفسنا ولن نقدر أن نعيش الحياة. فالأحاسيس هي حياة القلب وإذا كانت معافاة تحركنا نحو حياة وافية. خطير جدا ً أن تسيرنا أحاسيس لا نعرف حقيقة طبيعتها، أومدى صحتها، أو حتى كيف نتخلص منها. عدم نسيان أذية الماضي يدفعنا إلى التعامل مع الآخرين بشك وخوف. إن لم تقبل خسارة الماضي لن تتجرأ ان تبدأ أي شيء جديد لأنك سوف تبقى دائما ً في سجن الخوف من الخسارة. المرارة تدمر سلام الفكر وسلام النفس. لن تعيش بسلام أبدا ً ما دمت تشعر أنك مظلوم وطالما أنت مملؤ بالغضب والكراهية.

أقنعة المرارة

هناك ثلاث أحاسيس خداعة للمرارة تجعلنا غير قادرين على الشفاء منها:

١- المرارة حق: نحن نظن خطأً أن المرارة هي حق من حقوقنا ويجب أن نتمسك به. الآخر كسر قلبي أو الحياة ظلمتني ومن حقي أن لا أنسى، من حقي أن أشعر بالظلم، ومن حقي أن أزدري كل شيء. لم أرى يوما ً سعيدا ً فمن حقي أن أكره الناس والحياة. ماذا فعلت المرارة هنا؟  المرارة جعلتك سجين الحقد وشلت حراك الحياة في داخلك.

٢- المرارة قصاص: ثاني إحساس مخادع للمرارة هو الظن أننا بالمرارة نقتص من الحياة والناس الذين أذونا. قد نفكر أنه إن لم نتصالح مع الحياة ومع الماضي نكون قد فرضنا عقاباً على الحياة وثأرنا منها. لكن ما حدث في الواقع هو أن المرارة جعلتك تنتقم من نفسك.

٣- المرارة تعويض: ثالث إحساس يغشنا هو الشعور بأن المرارة هي طريقة تعويض عن الخسارة. فإذا إنحرمت من الحب أحتفظ بكل الذكريات البشعة عن الناس الذين كسروا قلبي وكإنها محاولة تعويض سلبية، أفكر دائما ً بالأذية وبمن آذوني بأبشع طريقة وأتذكر ما حدث بأبشع صورة وكإني أريد أن أصنع  تمثالاً للبشاعة في قلبي.

الواقع هنا أن المرارة جعلتنا نبني سجنا ً كبيرا ً في داخلنا ونضع فيه الذي أساء إلينا ولا نقبل مسامحته فنجلس نحن سجانين على أبواب هذا السجن. يصبح هذا الشخص الذي أخطأ إلينا أو أخذ حقنا كإنه سجين، لكن يعيش في داخلنا دائما ً، في قلبنا وأفكارنا، فنصبح في الواقع نحن السجناء ونفقد الحرية والفرح والقدرة على التحرك والقدرة على تجديد مشاعرنا بالغفران لأننا مقيدون بالسجن والسجين. المرارة هي محاولة تعويض عن خسارة الماضي بخسارة المستقبل.

تنائج المرارة

المرارة والخير أو المرارة والفرح أو المرارة والحب لا يمكن أن يجتمعوا تحت سقف واحد. يعلمنا الكتاب المقدس أن:

١- المرارة خطية تضع حاجزاً بينا وبين الرب وتقفل طريق البركة في حياتنا. الإنسان الذي يعاني من مرارة مزمنة لا يستطيع التخلص منها، يتحول في أعماق نفسه إلى إنسان متكبر لا يقدر أن يقبل أن كل الناس معرضون للأذية. رفض الشفاء هو أخطر تعبير عن كبرياء النفس وعدم السماح للرب أن يتعامل معنا. تقول الكلمة: "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوت… طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون..." ( إقرأ متى ٥: ١-١٢). الجوع إلى حرية القلب يوصلنا إلى حرية إستخدام المشاعر لأجل الحياة لا لأجل الموت.

أنت تعلم أنك لست مرتاحاً والرب يريد أن يريحك، الله يريد أن يشفيك من الأشياء التي انت لا تعلم حقيتها. لانه حيث توجد المرارة هناك حقد وضغينة وغضب وعدم غفران، أي هناك كراهية مبطنة. الرب يريد أن يغسل حياتك ويعطيك حياة جديدة لأنه قادر، هو إله الحياة والحب والبركات الجديدة كل صباح. تدعونا كلمة الرب "إتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب" (الرسالة إلى العبرانيين ١٢:١٤). الحقد والضغينة وعدم الغفران وعدم تخطي الأذية والإساءة هي عكس الطهارة، ولا يمكن أن يكون قلب الإنسان نقيا ً إن كان مليئاً بالحقد. 

٢-  المرارة سلوك يؤدي للفشل. تقول كلمة الرب "ملاحظين لئلا يخيب أحد من نعمة الله. لئلا يطلع أصل مرارة ويصنع إنزعاجاً فيتنجس به كثيرون" (الرسالة إلى العبرانيين ١٢: ١٥). عندما تنجس المرارة حياتنا تنجس وتلوث حياة كل من حولنا، أولادنا وأصدقائنا وكل الناس الذين يحاولون أن يفهمونا ويساعدونا. المرارة تجعلنا نتصرف بدون حكمة، بل وحتى بغباء أحيانا ً، فنقول أشياء تأذي من حولنا. والأسوأ من ذلك أننا دون أي شعور نجد أنفسنا نحقن أولادنا أيضا ً بهذا الإحساس المسم. ماذا تتوقع أن يحدث عندما يسمعون التذمر في كل كلامك  وعندما يلاحظون غياب الفرح من حياتك، لن يكونوا متعبين فقط، لأن المشاعر العدائية تتعب الإنسان، بل سيتعلمون الحقد، ولن تكون هناك بساطة في حياتهم ولا ثقة بالناس ولا إستقامة. سيتساءلون دائما ً بينهم وبين أنسفهم "أين هو الهه؟ هل إلهه قوي أم هو ضعيف؟"  وعلى العكس، عندما يرون أنك قد شفيت وتخليت عن كل الماضي وأعطيت الرب فرصة يتعلمون منك أن الله قادر على كل شي، ويتعلمون أننا قادرون على إختيار حياتنا وأحاسيسنا وأفكارنا، ولا يقدر أحد أن يفرض علينا أن نبق في الماضي.  

التخلص من المرارة

١- المرارة خطية، علينا أن نتوب أمام الرب عن مشاعر المرارة. وعلينا أن نغفر للذين أساؤا إلينا. كل واحد منا مسؤول عن أفعاله وعن كلامه وعن أحاسيسه. الله وحده يقدر أن يغير الآخرين. يقول داوود للرب "أنت الذي أريتنا ضيقات كثرة وردية تعود فتحيينا ومن أعماق الأرض تعود فتصعدنا" (مزمور ٧١: ٢٠) . الله قادر على التعامل مع كل آلامك وهو ينتظر أن يخرجك من حفرة المرارة ويغير المر لحلو والجفاف لبركة والعطش لنبع حياة. الله غير مرارة أيوب وبدل مرارة ابراهيم وسارة لفرح. تستطيع أن تثق به وتعطيه كل مشاعر المرارة وتردد مع النبي داوود اليوم "قلباً نقياً أخلق في يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" (مزمور ٥١: ١٠).

٢- أعطي قلبك للرب بكل شيء فيه كي يعطيك قلباً ينبض بالحياة، قلباً مستعداً أن يثق بالمحبة، كي تختبر مع أهل بيتك الغفران والفرح والنعمة، فهو يدعوك "يا إبني أعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي" (أمثال ٢٣:٢٦). المسيح جاء ليس لكي ينوّر سبلنا فقط بل لكي ينوّر داخلنا ويجعل الظلمة التي في داخلنا نورا ً، جاء لينير كل إنسان. يجب أن نتذكر أن الإمتحان لا بد أن يأتي. الجندي لا يستطيع القول عن نفسه بطلاً حتى لو خضع لأقسى التدريبات العسكرية، ولكنه يقدر أن يقول عن نفسه أنه شجاع وبطل بعد مواجهة العدو في أرض المعركة .

٣- ستمتحن إذا إلتقيت بالاشخاص الذين أذوك بمكان أو إذا سمعت عنهم أي شيء، الشعور القديم قد يحاول أن يعود. لا تسمح للكراهية والغضب أن يسيطرا عليك وتذكر أن الرب يعمل شيأً جديداً في حياتك، فلا تعطل عمل الرب الذي تقول كلمته "ها أنا صانع أمراً جديداً. الآن ينبت. ألا تعرفونه. أجعل في البرية طريقاً في القفر أنهاراً" (أشعياء ٤٣: ١٩). تذكر أنك تعاملت مع المرارة وتركتها. عندما تتخلى عن المرارة فأنت تفتح صفحة جديدة في حياتك واثقا ً بالمحبة فتعمل الخير وتنتظر الخير. فلا تسمح للمرارة أن تعود فتسرق حياتك.

٤- لا تتكلم بالسوء عن هؤلاء الأشخاص حتى لو جاءتك الفرصة. لم تعد ضحية بل أصبحت منتصرا ً يدفعك الحب والخير. من يختبر الخير يريده أيضا ً للآخرين كما تعلمنا كلمة الرب "لا يذم بعضكم بعضاً أيها الإخوة.الذي يذم أخاه ويدين أخاه يذم الناموس ويدين الناموس.وإن كنت تدين الناموس فلست عاملاً بالناموس بل دياناً له. واحد هو واضع الناموس القادر أن يخلص ويهلك. فمن أنت يا من تدين غيرك؟" (رسالة يعقوب ٤: ١١-١٢).

٥- تجنب التذمر والشكوى. تلك كانت طريق الماضي. طريق اليوم هي رجاء بما أعده الله لك وعمل جاد للتقدم إلى الأمام، كما تعلمنا كلمة الرب من حياة الرسول بولس "أيها الإخوة، أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت. ولكني أفعل شيئاً واحداً: إذ انا انسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع. فليفتكر هذا جميع الكاملين منا، وإن إفتكرتم شيئاً بخلافه فالله سيعلن لكم هذا أيضاً. وأما ما قد أدركناه، فلنسلك بحسب ذلك القانون عينه، ونفتكر ذلك عينه" (الرسالة إلى فيلبي ٣: ١٣- ١٦).

٦- أصرف وقتاً مع الرب لأنك تستحق ان تختبر حياة النعمة والبركة التي أعدها الرب لك. في كلمة الرب حكمة وصلاح تحصن قلوبنا تجاه فخاخ الشرير. " ناموس الرب كامل يرد النفس. شهادات الرب صادقة تصير الجاهل حكيماً. وصايا الرب مستقيمة تفرح القلب.أمر الرب طاهر ينير العينين" (مزمور ١٩: ٧-٨).

٧- صلِ إلى الرب واطلب فرصة مصالحة مع الأشخاص إذا كانت العلاقة معهم مهمة بالنسبة لك. لكن  بغض النظر عن المصالحة أو عدمها، عليك أن تغفر وتضع الحدود الصحيحة بينك وبين الآخرين. هذا يعني سعادتك هس مسؤوليتك أنت. الآخرين ليسوا مسؤولين عن سعادتك: 

- فعليك أن تقبل أن الناس مختلفين.

- أن تحترم الآخرين حتى لو لم تربطك بهم أية علاقة مودة.

- أن تقبل أن هناك نهايات حتى للعلاقات.

كل واحد منا أمامه طريقين، طريق يسلبنا الحياة وطريق يعطينا فرح وسلام ونصرة. صلاتي أن تختاروا طريق الحياة وتختبروا المحبة الإلهية المُغيرة المُشبِعة.