يقول بعض المسلمين أن وجود أناجيل أربعة هو خيردليل على أن الإنجيل تعرض للتحريف، المفروض إنجيل واحد وهو "إنجيل عيسى". والسبب في هذا الخلط هو عدم فهم أغلب المسلمين للوحي في المسيحية، فهم يسقطون المفهوم الإسلامي للوحي على المسيحية، بمعنى أنه كما يعتقد المسلم أن جبريل أوحى لمحمد بالقرآن هكذا أوحى الله بالإنجيل لعيسى، جبريل نقل الوحي لعيسى فكتب عيسى كتابا تركه لأتباعه كما ترك محمد القرآن لأتباعه، ولذلك يعتبرون وجود إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا دليلا على أن إنجيل المسيح ضاع، وكتب تلاميذه من بعده كل واحد إنجيله. وهذه الفكرة خاطئة جدا للأسباب الآتية.
الإنجيل هو حياة المسيح وكلامه
إن كلام المسيح وحياته هي الإنجيل، حيث نجده مثلا كان يطوف الجليل قائلا "قد كمل الزمان وإقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (مرقس ١: ١٥). ولم يكن يحمل معه أي كتاب حتى يطلب منهم الإيمان به، لقد كان يقصد أن الناس عليهم أن يصدقوا كلامه لأنه هو الإنجيل، و لذلك أمر المسيح تلاميذه أن ينقلوا سيرته وكلامه ويذيعوها في العالم أجمع حيث قال لهم: "إذهبوا إلى العالم أجمع وإكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مرقس ١٦: ١٥). فأي إنجيل إذن طلب المسيح من تلاميذه أن يذيعوه للخليقة كلها؟ إنه ليس كتابا ً بل كان يقصد كلامه وحياته، حتى لقاءاته مع الناس كان يطلب منهم أن يذكروها حين ينقلون حياته، فمثلا ً طلب منهم أن يذكروا المرأة التي سكبت الطيب على رأسه حيث قال لهم "حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا ً بما فعلته هذه تذكارا ً لها" (متى ٢٦ : ١٣).
أين هي تلك النسخة؟
لا يوجد في أي مرجع تاريخي أو غيره أن المسيح كان عنده كتاب يسمى الإنجيل، وعلى من يدعي ذلك أن يثبت وجود كتاب أوحاه الله للمسيح اسمه الإنجيل، هل من المعقول أن تضيع النسخة التي بعثها الله مع رسوله بينما تبقى نسخ الباطل؟ أليس ذلك معناه أن المسيح فشل في مهمته ونجح المزورون؟ هل الله أساء الاختيار؟ فهل بعث الله رسولا ً بإنجيل صحيح لهداية الناس فإذا بهذا الإنجيل يختفي ولا تبقى منه ولا نسخة واحدة بينما بقيت أناجيل محرفة مدونة في آلاف المخطوطات؟ هل من المعقول ولا واحد من تلاميذ المسيح إقتبس من النسخة الأصلية أو حافظ عليها أو ذكرها لنا المؤرخون؟ كيف لم يسمع ولا واحد بهذا الإنجيل الذي نزل على عيسى؟
لماذا يوحي الله بكلامه؟
الجواب: حتى يكون هداية للبشر. السؤال الآخر: هل الله يبعث كلامه هداية للبشر ثم يسمح للناس بتحريفه؟ أي إله هذا الذي لا يستطيع حماية كلامه من التحريف؟ إذا كان الملوك والقياصرة يصدرون أوامر ولا يسمحون لأي شخص أن يعبث بها ويعملون كل ما في وسعهم لحمايتها فكم بالأحرى الإله؟ أي إله هذا الذي لم يستطع "إنجيله" أن يعمر حتى سنوات قليلة؟
هل إنجيل البشر أعظم من إنجيل الله؟
كل الأناجيل الأربعة التي لدينا اليوم كتبت في القرن الأول للميلاد، وتناقلها المؤمنون عبر التاريخ وإقتبسوا منها ورددوها في أناشيدهم وأذكارهم، لماذا لا نجد ولو عبارة واحدة من الإنجيل المزعوم الذي يدعي المسلمون وجوده وقت المسيح؟ وإذا تأملنا الزمن بين وقت كتابة أول إنجيل وهو "إنجيل مرقس" والوقت الذي عاش فيه المسيح نجده حوالي ٢٥ سنة (معظم الدارسين يضعون تاريخ كتابته في العقد الذي سبق خراب الهيكل أنظر الموسوعة البريطانية). كيف لم يعمر الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى حتى ٢٥ سنة؟ هل معقول أن الله يبعث رسولا ً ورسالة عظيمة ويبعث كتابا ً لم يدم عمره سوى عقدين ونصف ولم يكن له أي تأثير بينما إستطاع البشر كتابة إنجيل آخر كان له تأثير أعظم من إنجيل الله نفسه وعمّر ألفي سنة؟ هل هذا يعقل؟
ما معنى إنجيل؟
إن كلمة إنجيل كلمة معربة من اليونانية، وتعني الخبر المفرح، وهذا الخبر السار والمفرح هو أن الله تجلى لعباده في المسيح، فالإنجيل ليس معناه كتاب أوحاه الله لعيسى بل معناه هو حياة المسيح، فالإنجيل هو حياة المسيح نفسها هو مجيء المسيح نفسه، وبالتالي حين دون تلاميذه حياته فقد دونوا "الإنجيل"، وحتى لو كانت الأناجيل أربعة فهي تتناول نفس القصة، وبالتالي فهي خبر واحد، إنجيل واحد في الجوهر، مثلما تنقل المحطات الإخبارية نفس الخبر بصيغ مختلفة لكنه يظل خبرا واحدا، هكذا دون تلاميذ المسيح خبرا سارا ً واحدا ً "إنجيلا ً واحدا ً" بصيغ مختلفة كل من زاوية معينة، متى من زاوية نبوية يهودية، مرقس من زاوية رومانية، لوقا من زاوية تاريخية، يوحنا من زاوية روحية، ولكنهم في النهاية كلهم نقلوا نفس الحياة، حياة المسيح وتعاليمه وأقواله. ولذلك نسمي الأناجيل الأربعة أحيانا كثيرة بالإنجيل بصيغة المفرد، مثلما يوجد في القرآن سورا مختلفة لكنها تشكل قرآنا واحدا، فالبقرة قرآن وآل عمران قرآن، ولكنها ليست قرائين، هكذا نفس الشيء فمتى إنجيل، ومرقس إنجيل ولوقا إنجيل، ويوحنا إنجيل لكنها ليست أربع أناجيل مختلفة، بل هو نفس الإنجيل من زوايا متنوعة.